التي يعتقدها غرما ونهبا لأموال الناس ، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتا على العدل ، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض ، ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها ، ويرى فيها هلاكا للأمة .. يجد كل هذه مهيمنة عليه ، ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده ، بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها. فالذي يؤمن بعقيدة ونظام ـ فردا كان أو جماعة ـ مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته ، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها ؛ ويعتقد أن فيها سعادة للبشر. لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق. وإذا رأيت رجلا لا يسعى وراء غايته ، أو يغفل عن هذا الواجب ، فاعلم أنه كاذب في دعواه. ولما يدخل الإيمان في قلبه. وبهذا المعنى ورد في التنزيل :
(عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ .. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) ... (التوبة : ٤٣ ـ ٤٥).
«وأي شهادة أصدق ؛ وأي حجة أنصع ؛ من شهادة القرآن وحجته ؛ ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ؛ ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله ، وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه ، وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده ، فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ...
* * *
«لعلك تبينت مما أسلفنا آنفا أن غاية (Objective) الجهاد في الإسلام ، هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه ، وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها. وهذه المهمة .. مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام. غير منحصرة في قطر دون قطر. بل مما يريده الإسلام ، ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة .. هذه غايته العليا ، ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره. إلا أنه لا مندوحة للمسلمين ، أو أعضاء «الحزب الإسلامي» عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود ، والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها. أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل (World.Revolution) المحيط بجميع أنحاء الأرض. وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية ، بل تدعو الناس جميعا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين ، لا يمكنها أصلا أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قطر. بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها ، ولا تغفل عنها طرفة عين. فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية ، ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافية واصطلحوا عليها. فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة. ويقول لها مطالبا بحقه : ما بالكم تقولون : إن القضية الفلانية «حق» في هذا الجانب من ذاك الجبل أو النهر مثلا ، ثم تعود القضية نفسها «باطلا» ـ بزعمكم ـ إذا جاوزنا ذاك الجبل أو النهر بأذرع؟! الحق حق في كل حال وفي كل مكان! وأي تأثير للجبال والأنهار في تغيير حقيقته المعنوية؟! الحق ظله وارف ، وخيره عام شامل ، لا يختص ببيئة دون بيئة ، ولا قطر دون قطر. فأينما وجد «الإنسان» مقهورا فالحق من واجبه أن يدركه ويأخذ بحقه وينتصر له. ومهما أصيبت «الإنسانية» في أبنائها المستضعفين ، فعلى العدل ومبادئه