أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها ، يلعبون بعقول الناس ، ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون (١)! فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد ، وتنديده بالكفر والشرك بالله ، واجتناب الأوثان والطواغيت .. كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها ، والذين يجدون فيها سندا لهم ، وعونا على قضاء حاجاتهم وأغراضهم .. ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة ، وخاطبهم قائلا : «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» .. قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره ، وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلما وعدوانا .. خرجت تقاومه ، وتضع في سبيل الدعوة العقبات. وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية ، أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات (Metaphysical Proposition) وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي ، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه ، المستبدين بمنابع الثراء ، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام!
* * *
«إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية ، وجملة من المناسك والشعائر ، كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام. بل الحق أنه نظام شامل ، يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم ، ويقطع دابرها ، ويستبدل بها نظاما صالحا ، ومنهاجا معتدلا ، يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى ، وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان ، وسعادة له وفلاحا في العاجلة والآجلة معا.
«ودعوته في هذه السبيل ، سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء ، عامة للجنس البشري كافة ، لا تختص بأمة دون أمة ، أو طائفة دون طائفة. فهو يدعو بني آدم جميعا إلى كلمته ؛ حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه ، واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس .. يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلا : لا تطغوا في الأرض ، وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم ، وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه. فإن أسلمتم لأمر الله ، ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة ، فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحدا ؛ وإنما يعادي الحق الجور ، والفساد والفحشاء ، وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية ، ويبتغي ما وراء ذلك ، مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون ، وفطرة الله التي فطر الناس عليها.
«فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن ، يصير عضوا في «الجماعة الإسلامية» أو «الحزب الإسلامي» لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود ، أو بين الغني منهم والفقير. كلهم سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأمة على أمة. أو لطبقة على أخرى. وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي ، الذي سمي «حزب الله» بلسان الوحي.
«وما إن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها. فمن طبيعته ، وما يستدعيه وجوده ، أن لا يألو جهدا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام ، واستئصال شأفتها ، وأن يستنفد مجهوده في أن يستبدل بها نظاما للعمران والاجتماع معتدلا ، مؤسسا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم : «كلمة الله». فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ،
__________________
(١) أما في الجاهليات الحاضرة فإن شكل الأصنام والهيا كل فقط هو الذي تغير. وهي تقيم للمغفلين من الناس والمستخفين أصناما وهياكل معنوية من نوع آخر ينطق سدنتها باسمها ويقولون : إنها تريد كذا وكذا ، فيستجيب المغفلون والمستخفون!!!