... «وقد تضمنت الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ... (البقرة : ٢١)
«لباب هذه الدعوة ، دعوة الإسلام الانقلابية ، وجوهرها. فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال ، أو الفلاحين ، أو الملاكين ، أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع ، ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم. وإنما يخاطب الإسلام بني آدم كافة. ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري ، فهو يأمرهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا ، ولا يتخذوا إلها ولا ربا غيره. وكذلك يدعوهم ألا يعتوا عن أمر ربهم ، ولا يستنكفوا عن عبادته ، ولا يتكبروا في أرض الله بغير الحق ، فإن الحكم والأمر لله وحده ، وبيده مقاليد السماوات والأرض ؛ فلا يجوز لأحد من خلقه ، كائنا من كان ، أن يعلو في الأرض ويتكبر ، ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته. ودعوته لهم جميعا أن يخلصوا دينهم لله وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة ، كما ورد في التنزيل :
(تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ : أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ... (آل عمران : ٦٤).
«فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل ، لا غموض فيها ولا إبهام. فإنه قد نادى بملء صوته :
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .. (يوسف : ٤٠)
«فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطرا عليهم ، يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد. ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى ، هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق ، وعتو عن أمره ، وطموح إلى مقام الألوهية (١). والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكا وأمراء إنما يشركون بالله ، وذلك مبعث الفساد في الأرض ، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.
* * *
«إن دعوة الإسلام إلى التوحيد ، وعبادة الله الواحد ، لم تكن قضية كلامية. أو عقيدة لا هوتية فحسب. شأن غيره من النحل والملل ؛ بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي (Social.Revolution) أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية ؛ واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة. فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ؛ ومنهم من استأثر بالملك والإمرة ، وتحكم في رقاب الناس ؛ ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض ؛ وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به .. فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعا وتستأصل شأفتهم استئصالا .. وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرا وعلانية ؛ وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم ؛ وينقادوا لجبروتهم ؛ مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم ؛ أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها ؛ فقالوا : «ما علمت لكم من إله غيري» .. و «أنا ربكم الأعلى» .. و «أنا أحيي وأميت» .. و «من أشد منا قوة؟» .. إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغيا وعدوانا. وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم ، فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة ، يدعون الناس ويريدونهم على
__________________
(١) ولا يختلف الحال لو كانت هيئة ، أو كان «الشعب» هو الذي ينشىء شرائعه من غير سلطان من الملك الأعلى ... فالعبرة هي بهذا القيد .. سواء كان المشرّع فردا أم جماعة أم شعبا!