إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم. لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم! بعد ما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم ، ومن الجهل المزري ، ومن التعاليم المغرورة ، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث!
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية. والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه ، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير :
(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
بصائر تكشف وتنير. وهدى يرشد ويهدي. ورحمة تغمر وتفيض .. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم ..
* * *
ولأن هذا هو القرآن يجيء مباشرة في السياق هذا التوجيه للمؤمنين :
(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ..
فتختتم به السورة التي بدأت بالإشارة إلى هذا القرآن : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
وتختلف الروايات المأثورة في موضع هذا الأمر بالاستماع والإنصات إذا قرىء القرآن .. بعضهم يرى أن موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة. حين يجهر الإمام بالقرآن ؛ فيجب أن يستمع المأموم وينصت ، ولا يقرأ هو مع قراءة الإمام الجهرية. ولا ينازع الإمام القرآن! وذلك كالذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وقال الترمذي عنه : هذا حديث حسن ، وصححه أبو حاتم الرازي ، من حديث الزهري عن أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : «هل قرأ أحد منكم معي آنفا به» قال رجل : نعم يا رسول الله. قال : «إني أقول : ما لي أنازع القرآن» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكالذي رواه ابن جرير في التفسير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا المحاربي ، عن داود بن أبي هند ، عن بشير بن جابر قال : صلى ابن مسعود ، فسمع ناسا يقرأون مع الإمام. فلما انصرف قال : «أما آن لكم أن تفهموا ؛ أما آن لكم أن تعقلوا : (إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) كما أمركم الله (١)!
وبعضهم يرى أن هذا كان توجيها للمسلمين أن لا يكونوا كالمشركين الذين كانوا يأتون رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذا صلى ، فيقول بعضهم لبعض بمكة : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). فأنزل الله عزوجل جوابا لهم : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) .. قال القرطبي هذا وقال نزل في الصلاة. روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب .. وروى ابن جرير سببا للنزول قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبوبكر بن عياش ، عن عاصم عن المسيب ..
__________________
(١) تختلف المذاهب في قراءة المأموم : لا يقرأ المأموم في صلاة جهرية أو سرية وقراءة الإمام قراءته .. لا يقرأ في الجهرية مع الإمام ويقرأ في السكتة بين الفاتحة والقراءة .. لا يقرأ في الجهرية إطلاقا ويقرأ في السرية.