في انفعال وانبهار وتأثر .. فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها .. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع .. سمع التعليق المرهوب الموحي ، على المشهد كله :
(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) ..
ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم. ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخا. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان ، هابطون عن مكان «الإنسان» إلى مكان الحيوان .. مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين .. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين ؛ وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم ، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين!
(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ!) ..
وهل أسوأ من هذا المثل مثلا؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟ وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويدعها غرضا للشيطان يلزمها ويركبها ، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض ، الحائر القلق ، اللاهث لهاث الكلب أبدا!!!
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد ؛ إلا هذا القرآن العجيب الفريد!!
وبعد .. فهل هو نبأ يتلى؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيرا. فهو من هذا الجانب خبر يروى؟
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحا في فلسطين ـ قبل دخول بني إسرائيل ـ وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره ؛ على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير ، أن يكون واحدة منها ؛ ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها ؛ ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر .. فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل (بلعام بن باعوراء) ، وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة. وروي أنه كان من العرب (أمية بن الصلت).
وروي أنه كان من المعاصرين لبعثة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (أبو عامر الفاسق) وروي أنه كان معاصرا لموسى عليهالسلام. وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول ، وقولهم لموسى ـ عليهالسلام ـ ما حكاه القرآن الكريم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) .. كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان (اسم الله العظيم) الذي يدعو به فيجاب ؛ كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبيا .. ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى ..
لذلك رأينا ـ على منهجنا في ظلال القرآن ـ ألا ندخل في شيء من هذا كله. بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء. ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عنه شيء. وأن نأخذ من النبأ ما وراءه. فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها .. وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ؛ ما أكثر الذين يعطون علم دين الله ، ثم لا يهتدون به ، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة