بطبيعة بني إسرائيل ، التي تشمل خيارهم وشرارهم ، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار. وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار!
فأما موسى ـ عليهالسلام ـ فقد توجه إلى ربه ، يتوسل إليه ، ويطلب المغفرة والرحمة ، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة :
(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ : رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) ..
فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد ، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه ؛ وأن يرد عنهم فتنته ، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم :
(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟) ..
وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام. زيادة في طلب استبعاد الهلاك .. أي : رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) ..
يعلن موسى ـ عليهالسلام ـ إدراكه لطبيعة ما يقع ؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء ؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين!. وهذا هو الشأن في كل فتنة : أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين. وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين ، ويخرجون منها ضالين .. وموسى ـ عليهالسلام ـ يقرر هذا الأصل تمهيدا لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء :
(أَنْتَ وَلِيُّنا) ..
فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك ، ونيل مغفرتك ورحمتك :
(فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) ..
(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ).
رجعنا إليك ، والتجأنا إلى حماك ، وطلبنا نصرتك.
وهكذا قدم موسى ـ عليهالسلام ـ لطلب المغفرة والرحمة ، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه ، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه. فكان دعاؤه نموذجا لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم ؛ ونموذجا لأدب الدعاء في البدء والختام.
ثم يجيئه الجواب :
(قالَ : عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ..
تقريرا لطلاقة المشيئة ، التي تضع الناموس اختيارا ، وتجريه اختيارا : وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضا ، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته ، لأنه هكذا أراد .. فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب .. وبذلك تجري مشيئته .. أما رحمته فقد وسعت كل شيء ؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك .. وبذلك تجري مشيئته ، ولا تجري مشيئته ـ سبحانه ـ بالعذاب أو بالرحمة جزافا أو مصادفة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل ، إذ يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي