وصحة .. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط!
والأمم التي
خلت شاهد واقع. ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم ، لا يأخذون منهم عبرة ، ولا
يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف ؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف .. والله من
ورائهم محيط ..
* * *
وبينما كان
موسى ـ عليهالسلام ـ في حضرة ربه ، في ذلك الموقف الفريد ، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه
الأبصار ؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار .. كان قوم موسى من بعده يرتكسون
وينتكسون ، ويتخذون لهم عجلا جسدا له خوار ـ لا حياة فيه ـ يعبدونه من دون الله!
ويفاجئنا
السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع إلى المشهد العاشر. نقلة هائلة من
الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته إلى الجو الهابط
المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته :
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ. أَلَمْ
يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً؟ اتَّخَذُوهُ
وَكانُوا ظالِمِينَ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا قالُوا : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخاسِرِينَ) ..
إنها طبيعة
إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق ؛ والتي ما تكاد ترتفع عن
مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد ؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها
التوجيه والتسديد ..
لقد راودوا
نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلها يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على
أصنام لهم! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم ردا شديدا. فلما خلوا إلى أنفسهم ،
ورأوا عجلا جسدا من الذهب ـ لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد ـ صنعه لهم السامري ـ رجل
من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه ـ واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج
صوتا كصوت خوار الثيران .. لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه ، وتهافتوا عليه
حين قال لهم السامري : (هذا إِلهُكُمْ
وَإِلهُ مُوسى) الذي خرج موسى لميقاته معه ؛ فنسي موسى موعده معه ـ ربما
لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها ، فلما زاد
عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري : لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه! ـ ولم
يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار ـ رب العالمين ـ ولم
يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم! .. وإنها لصورة زرية للبشرية
تلك التي كان يمثلها القوم. صورة يعجب منها القرآن الكريم ؛ وهو يعرضها على
المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام!
(أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً؟ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ!) ..
وهل أظلم ممن
يعبد خلقا من صنع أيدي البشر. والله خلقهم وما يصنعون؟!
وكان فيهم
هارون ـ عليهالسلام ـ فلم يملك لهم ردا عن هذا الضلال السخيف. وكان فيهم بعض عقلائهم فلم
يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد ـ وبخاصة أنه من الذهب
معبود إسرائيل الأصيل! وأخيرا هدأت الهيجة ، وانكشفت الحقيقة ، وتبين السخف ، ووضح
الضلال ، وجاءت نوبة الندم والإقرار :
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ، قالُوا : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا
رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..
يقال : سقط في
يده إذا عدم الحيلة في دفع ما هو بصدده من أمر .. ولما رأى بنو إسرائيل أنهم صاروا
ـ