الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود .. حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة :
(قالَ : لَنْ تَرانِي) ..
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل ، فيعلمه لما ذا لن يراه .. إنه لا يطيق ..
(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ..
والجبل أمكن وأثبت. والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثرا واستجابة من الكيان البشري .. ومع ذلك فماذا؟
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) ..
فكيف كان هذا التجلي؟ نحن لا نملك أن نصفه ، ولا نملك أن ندركه. ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله ، حين تشف أرواحنا وتصفو ، وتتجه بكليتها إلى مصدرها. فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئا .. لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي .. ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره ؛ وليس منها رواية عن المعصوم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئا.
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) ..
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسوّى بالأرض مدكوكا .. وأدركت موسى رهبة الموقف ، وسرت في كيانه البشري الضعيف :
(وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً).
مغشيا عليه ، غائبا عن وعيه.
(فَلَمَّا أَفاقَ) ..
وثاب إلى نفسه ، وأدرك مدى طاقته ، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله :
(قالَ : سُبْحانَكَ!) ..
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك.
(تُبْتُ إِلَيْكَ) ..
عن تجاوزي للمدى في سؤالك!
(وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ..
والرسل دائما هم أول المؤمنين بعظمة ربهم وجلاله ، وبما ينزله عليهم من كلماته .. وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا ، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى.
وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى ؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى .. بشرى الاصطفاء ، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص .. وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص :
(قالَ : يا مُوسى ، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ..
ونفهم من قول الله سبحانه لموسى ـ عليهالسلام ـ (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي) .. أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه ـ فالرسل كانوا قبل موسى وبعده ـ فهو الاصطفاء على جيل من