وألقى موسى إلى أخيه هارون ـ قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه ـ بوصيته تلك :
(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ..
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه. ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم .. ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة ، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل! .. وقد تلقى هارون النصيحة. لم تثقل على نفسه! فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه ؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار ، الذين يحسون في النصيحة تنقصا لأقدارهم! .. إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ؛ ليظهر أنه كبير!!!
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير : «فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة ؛ قال المفسرون : فصامها موسى ـ عليهالسلام ـ وطواها ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين» ..
* * *
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع. المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى ـ عليهالسلام ـ مشهد الخطاب المباشر بين الجليل ـ سبحانه ـ وعبد من عباده. المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة ؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي ، وهو بعد على هذه الأرض .. ولا ندري نحن كيف .. لا ندري كيف كان كلام الله ـ سبحانه ـ لعبده موسى. ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله. فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة ؛ وبر صيدنا المحدود من التجارب الواقعة. ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء. ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية ، نريد أن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود! (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ، قالَ : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. قالَ : لَنْ تَرانِي ، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ، وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ! تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. قالَ : يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي. فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ. سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟).
إننا لفي حاجة إلى استحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله .. في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره ؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليهالسلام فيه ..
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ، قالَ : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ..
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه ؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق! فينسى من هو ، وينسى ما هو ، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض ، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض .. يطلب