العالمين لا تحمل إلا مدلولا واحدا هو انتزاع السلطان من يد العبيد ـ الطواغيت ـ ورده إلى صاحبه ـ سبحانه ـ وهذا معناه ـ من وجهة نظرهم ـ الإفساد في الأرض! أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية لمثل هذه الدعوة بذاتها : إنها محاولة لقلب نظام الحكم! ومن وجهة نظر الطواغيت الجاهلية التي تغتصب سلطان الله ـ أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان ـ يكون هذا «قلبا» لنظام الحكم. لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد لبقية العبيد. بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد! وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين ؛ وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان : إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم. وهددهم بأبشع العذاب والنكال : (قالَ فِرْعَوْنُ : آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ..
ومن الجانب الآخر كان هؤلاء السحرة الذين آمنوا برب العالمين ؛ وأسلموا لله وحده ؛ وأعلنوا الخروج من العبودية الزائفة للطاغوت المغتصب للربوبية واختصاصاتها .. كانوا يعلمون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت. إنها المعركة على العقيدة. لأن هذه العقيدة تهدد سلطان الطواغيت بمجرد إعلان أصحابها أن عبوديتهم خالصة لرب العالمين. بل بمجرد إعلان أن الله رب العالمين! ومن ثم قالوا لفرعون ردا على اتهامه لهم بأن هذا مكر مكروه في المدينة ليخرجوا منها أهلها ـ وهو مرادف للاتهام في الجاهليات الحديثة لكل من يعلن ربوبية الله للعالمين بمعناها الجاد بأنه يعمل على قلب نظام الحكم! ـ : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) .. ثم لجأوا إلى ربهم الذي آمنوا به فتمردوا على العبودية لغيره قائلين : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) .. فكان هذا فرقانا جعله الله في قلوبهم حين استقرت حقيقة الإسلام لله فيها.
* ومن خلال عرض الآيات التي جاء بها موسى لفرعون وملئه ؛ وما أخذهم الله به من السنين ونقص الثمرات ، وما أرسله عليهم من الآفات. ومواجهتهم لهذا كله بالعناد والمراوغة والإصرار في النهاية على ما هم فيه حتى أهلكهم الله كما يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ـ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ـ وَقالُوا : مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ، فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا : يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ. لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ ـ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ـ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) .. من خلال عرض هذا كله يتبين مدى إصرار الطاغوت على الباطل في وجه الحق. ومدى مقاومته للدعوة إلى (رَبِّ الْعالَمِينَ) .. ذلك أنه يعلم علم اليقين أن هذه الدعوة بذاتها هي حرب عليه ، بإنكار شرعية قيامه من أساسه! وما يمكن أن يسمح الطاغوت بإعلان أن لا إله إلا الله. أو أن الله هو رب العالمين. إلا حين تفقد هذه الكلمات مدلولها الحقيقي ، وتصبح مجرد كلمات لا مدلول لها .. وهي في مثل هذه الحالة لا تؤذيه! لأنها لا تعنيه! فأما حين تأخذ عصبة من الناس هذه الكلمات جدا بمدلولها الحقيقي ، فإن الطاغوت الذي يزاول الربوبية ـ بمزاولته للحاكمية بغير شرع الله ، وتعبيد الناس له بهذه الحاكمية وعدم إرسالهم لله ـ لا يطيق هذه العصبة. كما لم يطق فرعون دعوة موسى إلى رب العالمين ، وإعلان السحرة المؤمنين أنهم آمنوا برب العالمين. وكما ظل هو والملأ من قومه مصرين على رد هذه الدعوة ، والآيات تتوالى عليهم ،