(قالُوا : إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ، رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ..
ثم إن موسى ـ عليهالسلام ـ وهو يعلم قومه في مواضع كثيرة يعرفهم بربهم الحق .. فعندما أعلن فرعون أنه سيعيد اضطهاد بني إسرائيل بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) .. (قالُوا : أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا. قالَ : عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) .. وعند ما جاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وطلبوا إلى موسى أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة! (قالَ : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قالَ : أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ؟) ..
فهذه النصوص القرآنية في القصة تثبت حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليهالسلام ؛ وحقيقة التصور الاعتقادي الذي تنشئه هذه الحقيقة .. وهو التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام ؛ وتضمنه دين الله في جميع الرسالات. كما أنها تثبت زيف النظريات والتكهنات التي يدلي بها الباحثون في تاريخ الأديان من الغربيين ومن يأخذ بمنهجهم وتقريراتهم ممن يكتبون عن تطور العقيدة!
كذلك تثبت هذه النصوص ألوان الانحراف التي صاحبت تاريخ بني إسرائيل وجبلتهم الملتوية ـ حتى بعد بعثة موسى عليهالسلام. ذلك من مثل قولهم : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) .. ومثل اتخاذهم العجل في غيبة موسى على الجبل لميقاته مع ربه! ومثل طلبهم رؤية الله جهرة وإلا فإنهم لا يؤمنون! ولكن هذه الانحرافات لا تمثل حقيقة العقيدة التي جاء بها موسى من ربه. إنما هي انحرافات عن هذه العقيدة. فكيف تحسب الانحرافات إذن على العقيدة ذاتها؟ ويقال : إنها «تطورت» إلى التوحيد؟!
كذلك تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله وبين الجاهلية كلها. وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين ؛ وكيف يحس فيه الخطر على وجوده ؛ كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت!
إنه بمجرد أن قال موسى عليهالسلام لفرعون : (يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ... قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) .. تبين مدلول هذه الدعوة إلى (رَبِّ الْعالَمِينَ) .. إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين! وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل. فإنه إذ كان الله رب العالمين ، فما يكون لعبد من عبيده ـ وهو فرعون المتجبر الطاغي ـ أن يعبدهم لنفسه ، فهم ليسوا عبيدا إلا لرب العالمين .. إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له. فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس ـ وهم من العالمين ـ وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده. فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده ؛ والا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية .. أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية .. وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره. لا يحكمهم بشرعه.
ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى (رَبِّ الْعالَمِينَ). وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون ـ وسلطانهم المستمد منه ـ فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. فَما ذا تَأْمُرُونَ؟) .. (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟) .. وما أرادوا إلا أن هذه الدعوة إلى رب