* إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد : هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده ـ رب العالمين ـ ذلك أن هذه العبودية لله الواحد ، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه ، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلا من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعا. ذلك أن كل تفصيل ـ بعد قاعدة العقيدة ـ في الدين ، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا ، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان ؛ بل في القرآن كله .. ولنذكر ـ كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام (١) أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله ؛ كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه.
إن لهذا الدين «حقيقة» ؛ و «منهجا» لعرض هذه الحقيقة. «والمنهج» في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن «الحقيقة» فيه .. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة .. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية .. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة ..
* إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ؛ ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان ، ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا .. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام لله والطاعة لرسوله ؛ ولم يعجبوا أن يختار الله واحدا منهم ليبلغهم وينذرهم. فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم ، فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر ، وأن يسمعوا لواحد منهم .. كانوا هم «الملأ» من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم .. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين .. إنها عقدة الحاكمية والسلطان .. فالملأ كانوا يحسون دائما ما في قول رسولهم لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ... (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني ـ أول ما تعني ـ نزع السلطان المغتصب من أيديهم ؛ ورده إلى صاحبه الشرعي .. إلى الله رب العالمين .. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر ، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك ، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك! .. إن مصارع المكذبين ـ كما يعرضها هذا القصص ـ تجري على سنة لا تتبدل : نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه. إنذار من الله للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة .. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ!
وأخيرا فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق .. وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل ـ تاركا مصيرهما لفتح الله وقضائه ـ فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده .. ولقد قال شعيب لقومه : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) .. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة ، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ؛ ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : لَنُخْرِجَنَّكَ
__________________
(١) الجزء السابع : ص ١٠٠٤ ـ ١٠١٥