إنه التوكيد
بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة ، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في
الجاهلية ؛ وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة ، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى
..
وأظهر هذه
الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه
ولا شرع ؛ وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم ، ويقول على
الله ما لا يعلم ، ويزعم من ذلك ما يزعم.
إنه يناديهم أن
يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم. وهو الرياش. عند كل عبادة ؛ ومنها
الطواف الذي يزاولونه عرايا ، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله ، بل أنعم به على
العباد. فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم ، لا نجلعه ولا بالفحش الذي
يزاولونه :
(يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ..
ويناديهم كذلك
ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف :
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
وقد ورد أنه
كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب. وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك!
في صحيح مسلم عن
هشام عن عروة عن أبيه قال : «كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش
وما ولدت. كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا ، فيعطي الرجال
الرجال ، والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ؛ وكان الناس يبلغون
عرفات. ويقولون : نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا
، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره
ثوبا ، ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عريانا وإما
أن يطوف في ثيابه ، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب
يسمى اللقى» ..
وجاء في تفسير
القرطبي المسمى «أحكام القرآن» : «وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما
في أيام حجهم ، ويكتفون باليسير من الطعام ، ويطوفون عراة. فقيل لهم : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ، وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم» .. والإسراف
يكون بتجاوز الحد ، كما قد يكون بتحريم الحلال. كلاهما تجاوز للحد. هذا باعتبار ،
وذاك باعتبار.
ولا يكتفي
السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد ، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام
والشراب. بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده ، وتحريم الطيبات من
الرزق. فمن المستنكر أن يحرم أحد ـ برأيه ـ ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من
الطيبات. فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله :
(قُلْ : مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)؟
ويتبع
الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس ، وهذه الطيبات من الرزق ، هي حق للذين
آمنوا ـ بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم ـ ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه
الدنيا ، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا :
(قُلْ : هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ..