وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة ، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد .. لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز. وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر ، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يجعل المسألة فوضى ، يقول فيها كل إنسان بهواه ، ثم يزعم أنه من الله. وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له ، والعبودية كاملة ؛ فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته :
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ، وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ..
هذا ما أمر الله به ، وهو يضاد ما هم عليه .. يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم ، مع دعواهم أن الله أمرهم بها .. ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم وريشا يتجملون به كذلك .. ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه ، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم ..
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ؛ ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء ؛ وبمشهدهم في العودة وهم فريقان : الفريق الذي اتبع أمر الله ، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان :
(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ : فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ..
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية. نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء :
(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ..
وقد بدأوا الرحلة فريقين : آدم وزوجه. والشيطان وقبيله .. وكذلك سيعودون .. الطائعون سيعودون فريقا مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله .. والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله ، يملأ الله منهم جهنم ، بولائهم لإبليس وولايته لهم. وهم يحسبون أنهم مهتدون.
لقد هدى الله من جعل ولايته لله. وأضل من جعل ولايته للشيطان .. وهاهم أولاء عائدين فريقين :
(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
هاهم أولاء عائدين. في لمحة تضم طرفي الرحلة! على طريقة القرآن ، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن!
* * *
ثم يتكرر النداء إلى «بني آدم» في هذه الوقفة كذلك ؛ قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة ؛ في الطريق المرسوم :
(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ : هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ : إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ؛ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ..