للناس ، على أنها هي هذا الدين. ويقولون لهم : انظروا كم هو ميسر هذا الدين! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير ، يبحثون عن «منافذ» لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ؛ ويجعلون هذه المنافذ هي الدين!
وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك. إنما هو بجملته. برخصه وعزائمه. ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي ، حين يعزم. ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي ـ في حدود بشريته ـ كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة : العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء .. ولا تكون كلها ذات طعم واحد .. ولا يقال عن أحدها : إنه غير ناضج ـ حين يبلغ نضجه الذاتي ـ إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر!
في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء ؛ وينبت الزيتون والرمان ، وينبت التفاح والبرقوق ، وينبت العنب والتين ... وينضج كله ؛ مختلفة طعومه ورتبه .. ولكنه كله ينضج. ويبلغ كماله المقدر له ..
إنها زرعة الله .. في حقل الله .. برعاية الله .. وتيسير الله (١) ..
* * *
وفي نهاية هذه الجولة ، ونهاية هذا الدرس ، يعود السياق إلى الترغيب ؛ واستجاشة القلوب ؛ والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب .. متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً! ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ ، وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) ..
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب ، فيه ذرة من خير ؛ وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة ، في جوار الله الكريم .. وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي .. إنما هي من فضل الله. فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها .. إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم.
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة ؛ وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه .. وهو ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بين ظهرانيهم. فتنزل هذه الآية : فتندي هذا الوجد ؛ وتبل هذه اللهفة .. الوجد النبيل. واللهفة الشفيفة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب السقمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير. قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو محزون. فقال له النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يا فلان. ما لي أراك محزونا؟» فقال : يا نبي الله. شيء فكرت فيه. فقال : «ما هو؟» قال : نحن نغدو عليك ونروح. ننظر إلى وجهك ، ونجالسك. وغدا ترفع مع النبيين ، فلا نصل إليك .. فلم يرد عليه النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) .. الآية ، فبعث النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فبشره.
وقد رواه أبوبكر بن مردويه مرفوعا ـ بإسناده ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «جاء رجل إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا رسول الله. إنك أحب إليّ من نفسي ، وأحب إليّ من أهلي ، وأحب إليّ من ولدي. وإني لأكون في البيت ، فأذكرك ، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي
__________________
(١) يراجع فصل : «منهج ميسر» في كتاب : «هذا الدين». «دار الشروق».