التحاكم إليها .. إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان. وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء ؛ وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء!
أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم ؛ نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل ؛ ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت ؛ في قضية من قضاياهم.
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم. لعلهم يتفكرون ويهتدون ..
وأياما كان سبب المصيبة ؛ فالنص القرآني ، يسأل مستنكرا : فكيف يكون الحال حينئذ! كيف يعودون إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) ...
إنها حال مخزية .. حين يعودون شاعرين بما فعلوا ... غير قادرين على مواجهة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بحقيقة دوافعهم. وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين : أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت ـ وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية ـ إلا رغبة في الإحسان والتوفيق! وهي دائما دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته : أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب ، التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة .. إنها حجة الذين يزعمون الإيمان ـ وهم غير مؤمنين ـ وحجة المنافقين الملتوين .. هي هي دائما وفي كل حين!
والله ـ سبحانه ـ يكشف عنهم هذا الرداء المستعار. ويخبر رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم. ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق ، والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء :
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) ..
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم ؛ ويحتجون بهذه الحجج ، ويعتذرون بهذه المعاذير. والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور .. ولكن السياسة التي كانت متبعة ـ في ذلك الوقت ـ مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم ، وأخذهم بالرفق ، واطراد الموعظة والتعليم ..
والتعبير العجيب :
(وَقُلْ لَهُمْ .. فِي أَنْفُسِهِمْ .. قَوْلاً بَلِيغاً).
تعبير مصور .. كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس ، ويستقر مباشرة في القلوب.
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله .. بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت ؛ ومن الصدود عن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول .. فالتوبة بابها مفتوح ، والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد ؛ واستغفارهم الله من الذنب ، واستغفار الرسول لهم ، فيه القبول! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية : وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا ـ بإذنه ـ لا يخالف عن أمرهم. ولا ليكونوا مجرد وعاظ! ومجرد مرشدين!
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ، فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ، لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ..
وهذه حقيقة لها وزنها .. إن الرسول ليس مجرد «واعظ» يلقي كلمته ويمضي. لتذهب في الهواء ـ بلا سلطان ـ كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل ؛ أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول «الدين».