ومما يلاحظ ـ بوجه عام ـ أن السياق يربط ربطا دقيقا بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله. وهي مقتضى ألوهيته. فأخص خصائص الألوهية ـ كما كررنا ذلك في مطلع السورة ـ هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم.
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق ؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية. ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم .. وهي إشارة ذات مغزى .. فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة .. هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبدا لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيرا مما يختاره الله!!!
والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التي يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتا ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس (١).
وسنرى ـ عند استعراض النصوص بالتفصيل ـ مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لو لا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عند ما ترين الجاهلية على القلوب والعيون!
* * *
«والمحصنات من النساء ـ إلا ما ملكت أيمانكم ـ كتاب الله عليكم ـ وأحل لكم ـ ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليما حكيما. ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ـ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ـ فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ـ ذلك لمن خشي العنت منكم ـ وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم. يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما. يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا» ..
* * *
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية. وذلك في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ـ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ـ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، وَبَناتُكُمْ ، وَأَخَواتُكُمْ ، وَعَمَّاتُكُمْ ، وَخالاتُكُمْ ، وَبَناتُ الْأَخِ ، وَبَناتُ الْأُخْتِ ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ،
__________________
(١) يراجع بتوسع فصل : «الربانية» في كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وفصل : «تخبط واضطراب» في كتاب : «الإسلام ومشكلات الحضارة». «دار الشروق».