(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ؛ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ـ لِمَنْ يَشاءُ ـ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) ..
وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك ؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد. ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركا .. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا : فقد روى القرآن عنهم قولهم : «عزير ابن الله» كقول النصارى «المسيح ابن الله». وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) .. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان. إنما كانوا ـ فقط ـ يقرون لهم بحق التشريع. حق التحليل والتحريم. الحق الخاص بالله ، والذي هو من خصائص الألوهية. ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين .. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان ـ كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل.
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات ، منحرفة عن التوحيد. والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك ـ لمن يشاء ـ ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم. ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركا به ؛ لم يرجع في الدنيا عن شركه.
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد. فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون. مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله ، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا ـ وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل ـ ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية. إنما تفعله وقد فسدت فسادا لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها ، وارتدت أسفل سافلين ، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم!
أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر ، والظلم العظيم الوقح الجاهر .. أما ما وراء ذلك من الذنوب ـ والكبائر ـ فإن الله يغفره ـ لمن يشاء ـ فهو داخل في حدود المغفرة ـ بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة ـ ما دام العبد يشعر بالله ؛ ويرجو مغفرته ؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له ؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه .. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد ؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب ؛ ولا يقف عليها بوّاب!
أخرج البخاري ومسلم ـ كلاهما ـ عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، قال : خرجت ليلة من الليالي ، فإذا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يمشي وحده ، وليس معه إنسان. قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال : فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال : «من هذا؟» فقلت : أبوذر ـ جعلني الله فداك ـ قال : «يا أبا ذر تعال!» قال : فمشيت معه ساعة. فقال لي : «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيرا ، فجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه ، وعمل فيه خيرا». قال : فمشيت معه ساعة ، فقال لي : «اجلس هاهنا». فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي : «اجلس هاهنا حتى أرجع إليك» : قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه. فلبث عني ، حتى إذا طال اللبث .. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول : «وإن زنى وإن سرق» قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله ـ جعلني الله فداك ـ من تكلمه في جانب الحرة ،؟ فإني سمعت أحدا يرجع إليك. قال : «ذلك جبريل ، عرض لي جانب الحرة ، فقال : «بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». قلت أيا جبريل. وإن سرق وإن زنى؟». قال : «نعم». «قلت : وإن سرق وإن زنى؟» قال : نعم. وإن شرب الخمر» ..