كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا. إذ يقولون للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(وَاسْمَعْ ـ غَيْرَ مُسْمَعٍ ـ وَراعِنا) ..
ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون : اسمع ـ غير مأمور بالسمع (وهي صيغة تأدب) ـ وراعنا : أي : انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا. بما أنهم أهل كتاب ، فلا ينبغي أن يدعوا إلى الإسلام كالمشركين! أما في الليّ الذي يلوونه ، فهم يقصدون : اسمع ـ لا سمعت ، ولا كنت سامعا! ـ (أخزاهم الله). وراعنا يميلونها إلى وصف «الرعونة»!
وهكذا .. تبجح وسوء أدب ، والتواء ومداهنة ، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه ..
إنها يهود!!!
وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم ؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب ؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه. ويطمعهم ـ بعد ذلك كله ـ في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله. لو ثابوا إلى الطريق القويم. وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم. وأنها هكذا كانت وهكذا تكون :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ..
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة. ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها :
(سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا).
لكان هذا خيرا لهم ، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم. ولكن واقع الأمر أنهم ـ بسبب كفرهم ـ مطرودون من هداية الله. فلا يؤمن منهم إلا القليل.
وصدق قول الله .. فلم يدخل في الإسلام ـ في تاريخه الطويل ـ إلا القليل من اليهود. ممن قسم الله لهم الخير ، وأراد لهم الهدى ؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى. أما كتلة اليهود ، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرنا ، حربا على الإسلام والمسلمين. منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة. وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع ، العنيد الذي لا يكف ، المنوع الأشكال والألوان والفنون ، منذ ذلك الحين! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله ـ بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله ـ إلا كان من ورائه اليهود. أو كان لليهود فيه نصيب!
* * *
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب ـ اليهود ـ دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم ؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم. ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص ، الذي عليه دينهم ، والله لا يغفر أن يشرك به .. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة ؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ، مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ .. وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً. إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ