(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ .. يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) ..
لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيبا من الكتاب .. الهداية .. فقد آتاهم الله التوراة ، على يدي موسى عليهالسلام ، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى .. ولكنهم يدعون هذا النصيب. يدعون الهداية. ويشترون الضلالة! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة. فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد. لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر ، يستحق التعجيب منه والاستنكار.
ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر. بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين. يريدون أن يضلوا المسلمين .. بشتى الوسائل وشتى الطرق. التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران ؛ والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك .. فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه ؛ بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم ؛ حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون!
وفي هذه اللمسة : الأولى ، والثانية ، تنبيه للمسلمين وتحذير ؛ من ألاعيب اليهود وتدبيرهم .. ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى. وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى ؛ ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام. فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير .. وكان القرآن يخاطبهم هكذا ، عن علم من الله ، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير.
ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود ، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين. وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره ، إزاء تلك المحاولة :
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ. وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا. وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) ..
وهكذا يصرح العداء ويستعلن ، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة .. وتتحدد الخطوط ..
وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة ـ وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة ـ ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم. بل يمضي فيعين اليهود. ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة ، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة :
(مِنَ الَّذِينَ هادُوا ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ؛ وَيَقُولُونَ : سَمِعْنا وَعَصَيْنا. وَاسْمَعْ ـ غَيْرَ مُسْمَعٍ ـ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) ..
لقد بلغ من التوائهم ، وسوء أدبهم مع الله عزوجل : أن يحرفوا الكلام عن المقصود به. والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها. وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة ؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير ؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد ؛ وتبعا لهذا على صحة رسالة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم. وتحريف الكلم عن المقصود به ، ليوافق الأهواء ، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم ، ويتخذونه حرفة وصناعة ، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان ؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين .. واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محتر في دين المسلمين من ينافسون ـ في هذه الخصلة ـ اليهود!
ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يقولوا له : سمعنا يا محمد ما تقول. ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع! ـ مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر ، حيث