إن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس ، على أتمها وأوفاها .. إن القارئ يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقا هي ومدلولاتها في التماع ولألاء. وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس ، كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها. والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها ، ويهدفان إليها!
إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقة لامعة رائعة تجيء من المجهول! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ ..
والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول. يتناسق معه في قوة الانبثاق ، وفي شدة اللألاء.
وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة ، يتابعها الحس في بهر! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعا مرة أخرى مع موجة جديدة .. كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل!
وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة. والمشاهد تتوالى ـ وكدت أقول : تتواثب ـ من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء ..
والجمال هو السمة البارزة هنا .. الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة .. المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية. والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي ، وفي دلالتها. والمدلولات أيضا ـ على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة ـ تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية .. فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء!
ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) .. فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر .. للنظر والتملي والاستمتاع الواعي (١).
ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي ، حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع .. إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع .. فيتحدث عنه ـ سبحانه ـ حديثا لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتها : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ..
وبعد ، فنحن ـ في هذا الدرس ـ أمام كتاب الكون المفتوح ، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة. فلا يقفون أمام خوارقه وآياته ، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه .. وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود ، كأنما نهبط إليه اللحظة ، فيقفنا أمام معالمه العجيبة ، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة ، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين!
ها هو ذا يفقنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار .. خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد .. لا ندري كيف انبثقت ، ولا ندري من أين جاءت ـ إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله. لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها!
وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة .. الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة .. وهي خارقة لا يعدلها شيء
__________________
(١) يراجع بتوسع فصل «الجمال في التصور الإسلامي» وفصل : «مشاهد الطبيعة في القرآن» في كتاب : «منهج الفن الإسلامي لمحمد قطب». «دار الشروق».