ولا يبسط أو يقبض رزقا .. وأنهم جميعا أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء .. وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول .. وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله .. إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية. التي تزعم أن أصول العقيدة ـ بما فيها العقائد السماوية ـ قد تطورت وترقت ، بتطور الأقوام وترقيها! وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن! فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير!!!
فأما حكمة إنزال هذا الكتاب ، فلكي ينذر به الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أهل مكة ـ أم القرى ـ وما حولها :
(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) ..
وسميت مكة أم القرى ، لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك ؛ وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعا ؛ ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض ؛ ولم تكن دعوة عامة من قبل ؛ وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة ، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة!
وليس المقصود ، كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين ، أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها. فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله ، ليزعموا أن محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها. وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه ؛ فتوسع في الجزيرة كلها ، ثم همَّ أن يتخطاها .. لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها! وذلك بعد هجرته إلى المدينة ، وقيام دولته بها! .. وكذبوا .. ففي القرآن المكي ، وفي أوائل الدعوة ، قال الله سبحانه لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ... (الأنبياء : ١٠٧) .. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ... (سبأ : ٢٨) ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء!
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) ..
فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحسابا وجزاء ، يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولا يوحي إليه ؛ ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به ؛ بل إنهم ليجدون داعيا يدعوهم إلى هذا التصديق. كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم ، ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله ؛ وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة .. فهي طبيعة نفس .. متى صدقت بالآخرة واستيقنتها ، صدقت بهذا الكتاب وتنزيله ، وحرصت على الصلة بالله وطاعته .. وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته.
* * *
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب .. مشهد الظالمين .. (أي المشركين) الذين يفترون على الله الكذب ، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له. أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن .. مشهد هؤلاء الظالمين ـ الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم ـ وهم في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب ، ويطلبون أرواحهم. والتأنيب يجبه وجوههم ، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، أَوْ قالَ : أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ، وَمَنْ قالَ : سَأُنْزِلُ مِثْلَ