(قُلِ : اللهُ. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ..
قل : الله أنزله .. ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم ، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين. وفي هذا من التهديد ، قدر ما فيه من الاستهانة ، قدر ما فيه من الحق والجد ؛ فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام ، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام!
ويمضي السياق يحكي شيئا عن الكتاب الجديد ، الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله. فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات ، فليس بدعا من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام :
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) ..
إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل ، وأن ينزل الله عليهم الكتب. وهذا الكتاب الجديد ، الذي ينكرون تنزيله ، هو كتاب مبارك .. وصدق الله .. فإنه والله لمبارك ..
مبارك بكل معاني البركة .. إنه مبارك في أصله. باركه الله وهو ينزله من عنده. ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل .. قلب محمد الطاهر الكريم الكبير .. ومبارك في حجمه ومحتواه. فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر ؛ ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام ، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر ؛ وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات ، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير ، أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية. وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز ـ ولا في أضعاف أضعافه ـ عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات! وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له في كلام البشر .. وإنه لمبارك في أثره. وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطابا مباشرا عجيبا لطيف المدخل ؛ ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن ؛ فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل. ذلك أن به من الله سلطانا. وليس في قول القائلين من سلطان!
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب. وما نحن ببالغين لو مضينا شيئا أكثر من شهادة الله له بأنه «مبارك» ففيها فصل الخطاب!
(مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ..
فهو يصدّق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عند الله ـ في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت : إنه من عند الله ـ هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة. أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا ، في حدود العقيدة الكبرى في الله.
والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون : إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله ؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول ؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء .. وهم يقصدون الثناء على الإسلام! .. هؤلاء لا يقرأون القرآن! ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره .. وأنهم جميعا أخبروا الناس بحقيقة الرسول ، وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا يعلم غيبا ،