مسؤولين .. وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة ـ حقيقة الحشر ـ موحيا بالاستسلام في
المبدأ ، ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير!
(وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ..
وهذه حقيقة
أخرى تحشد كمؤثر آخر .. فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات
والأرض ـ والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف ـ ولقد خلق السماوات والأرض «بالحق».
فالحق قوام هذا الخلق .. وفضلا عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها
الفلسفة عن هذا الكون ـ وبخاصة الأفلاطونية والمثالية ـ من أن هذا العالم المحسوس
وهم لا وجود له على الحقيقة! ـ فضلا على تصحيح مثل هذه التصورات ، فإن النص يوحي
بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون ، وفي مآلاته كذلك. فالحق الذي يلوذ به الناس
يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته ، فيؤلف قوة هائلة ، لا يقف لها
الباطل ، الذي لا جذور له في بنية الكون ، وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
الأرض ما لها من قرار. وكالزبد يذهب جفاء ، إذ لا أصالة له في بناء الكون .. كالحق
... وهذه حقيقة ضخمة ، ومؤثر كذلك عميق ..
إن المؤمن الذي
يشعر أن الحق الذي معه ـ هو شخصيا وفي حدود ذاته ـ إنما يتصل بالحق الكبير في كيان
هذا الوجود. (وفي الآية الأخرى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ) فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه .. إن
المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل ، لا يرى في الباطل ـ مهما
تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر ـ إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود ؛
لا جذور لها ولا مدد ؛ تنفثئ من قريب ، وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود.
كما أن غير
المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة. وقد يستسلم ويثوب!
(وَيَوْمَ يَقُولُ :
كُنْ فَيَكُونُ) ..
فهو السلطان
القادر ، وهي المشيئة الطليقة ، في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل .. وعرض هذه
الحقيقة ـ فضلا على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين ـ هو كذلك مؤثر
موح في نفوس الذين يدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق .. الذي يقول
: كن فيكون.
(قَوْلُهُ الْحَقُّ) ..
سواء في القول
الذي يكون به الخلق : «كن فيكون». أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده. أو
في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون. أو في القول الذي يخبر به عن الماضي
والحاضر والمستقبل. وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء.
قوله الحق في
هذا كله .. فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه. ومن
يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة. في أي اتجاه.
(وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ..
ففي هذا اليوم
يوم الحشر .. يوم ينفخ في الصور (هو القرن المجوف كالبوق) وهو اليوم الذي يكون فيه
البعث والنشر ؛ بكيفية غيبية لا يعلمها البشر ، فهي من غيب الله الذي احتفظ به.
والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته ، ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له ،
والروايات المأثورة ؛ تقول : هو بوق من نور ينفخ فيه ملك ، فيسمع من في القبور ،
حيث يهبون للنشور ـ وهذه هي النفخة الثانية ـ أما الأولى فيصعق لها