ولكن هناك ، من الجانب الآخر ، أصحاب له مهتدون ، يدعونه إلى الهدى ، وينادونه «ائتنا» ـ وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء «حيران» لا يدري أين يتجه ، ولا أي الفريقين يجيب!
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك ، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير!
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرأت هذا النص .. ولكن مجرد تصور .. حتى رأيت حالات حقيقية ، يتمثل فيها هذا الموقف ، ويفيض منها هذا العذاب .. حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه ـ أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق ـ ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة ، تحت قهر الخوف والطمع .. ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير .. وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة ، وماذا يعني هذا التعبير!
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي ، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس .. يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم :
(قُلْ : إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى ، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) ..
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب ، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية ، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار ، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم ..
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم :
(قُلْ : إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) ..
هو وحده الهدى ـ كما يفيد التركيب البياني للجملة ـ وإنه لكذلك عن يقين ..
وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير «علم» ولا «هدى» ولا «كتاب منير» ..
إن «الإنسان» موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة .. ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه.
ومن ثم يحتاج هذا «الإنسان» إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة ..
وكلما فاء هذا «الإنسان» إلى هدى الله اهتدى. لأن هدى الله هو الهدى. وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل. لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال .. إذ ليس هنالك نوع ثالث «فماذا بعد الحق إلا الضلال؟».
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال ـ وما تزال كلها تذوق ـ ما هو «حتمي» في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله .. فهذه هي «الحتمية التاريخية» الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ،