والبخل والأمر بالبخل ، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء ؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس ؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد!
وهكذا تتحدد «الأخلاق» .. أخلاق الإيمان. وأخلاق الكفر .. فالباعث على العمل الطيب ، والخلق الطيب ، هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والتطلع إلى رضاء الله .. وجزاء الآخرة. فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبه جزاء من الناس ، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس! فإذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغى وجهه ، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه. وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء .. اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس. وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة ، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل. وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء ، والبخل والتبخيل ، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص!
والتعبير القرآني يقول : إن الله «لا يحب» هؤلاء .. والله ـ سبحانه ـ لا ينفعل انفعال الكره والحب. إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .. والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله ـ إلى جوار المعنى المقصود ـ وهي ظلال مقصودة ؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات ، ولهذه التصرفات ؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز. وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)!
وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة .. وهي صفات تنطبق على اليهود ، كما تنطبق على المنافقين .. وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين .. وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله ، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين ، وعن رسوله الأمين .. ولكن النص عام ، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة. فأولى أن نترك مفهومه عاما. لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق.
وحين ينتهي من عرض سوءات نفوسهم ؛ وسوءات سلوكهم ؛ ومن عرض أسبابها من الكفر بالله واليوم الآخر ، وصحبة الشيطان واتباعه ؛ ومن الجزاء المعد المهيأ لأصحاب هذه السوءات ، وهو العذاب المهين .. عندئذ يسأل في استنكار :
(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ؟ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً. إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ..
أجل! ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، والإنفاق من رزق الله. والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث. والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم. ولا خوف من الظلم في جزائهم .. بل هناك الفضل والزيادة ، بمضاعفة الحسنات ، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب ـ على كل حال وعلى كل احتمال ـ وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية ، فإن الإيمان ـ في هذه الصورة ـ يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا ؛ إنما هو رزق الله لهم. ومع ذلك