أو ملك أو شيطان .. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء ، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال ..
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين ـ على التخصيص ـ ولذوي القربي ـ على التعميم ـ ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين ـ وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية ؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال. والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المدبر المولي. إذ الأولاد ـ في الغالب ـ يتجهون بكينونتهم كلها ، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم ؛ لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام ، غافلون عن التلفت إلى الوراء ، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم ، الذي لا يترك والدا ولا مولودا ، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين ؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض ، ولو كانوا ذرية أو والدين!
كذلك يلحظ في هذه الآية ـ وفي كثير غيرها ـ أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي ـ قرابة خاصة أو عامة ـ ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها ، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة. وهذا المنهج يتفق ـ أولا ـ مع الفطرة ويسايرها. فعاطفة الرحمة ، ووجدان المشاركة ، يبدآن أولا في البيت. في الأسرة الصغيرة. وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول. والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين ـ فطرة وطبعا ـ ولا بأس من ذلك ولا ضير ؛ ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور .. ثم يتفق المنهج ـ ثانيا ـ مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية : من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة ؛ ثم ينساح في محيط الجماعة. كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة ـ إلا عند ما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة ـ فالو حدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل : في وقته المناسب وفي سهولة ويسر. وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان!
وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين. ويتوسع منهما إلى ذوي القربي. ومنهم إلى اليتامى والمساكين ـ ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار. ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية ـ ثم الجار ذو القرابة. فالجار الأجنبي ـ مقدمين على الصاحب المرافق ـ لأن الجار قربه دائم ، أما الصاحب فلقاؤه على فترات ـ ثم الصاحب المرافق ـ وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر ، الرفيق في السفر ـ ثم ابن السبيل. العابر المنقطع عن أهله وماله. ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات «ملك اليمين» ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين.
ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر ، والبخل والتبخيل ، وكتمان نعمة الله وفضله ، والرياء في الإنفاق ؛ والكشف عن سبب هذا كله ، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، واتباع الشيطان وصحبته :
(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً!) ...
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي. وهي ربط كل مظاهر السلوك ، وكل دوافع الشعور ، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة. فإفراد الله ـ سبحانه ـ بالعبادة والتلقي ، يتبعه الإحسان إلى البشر ، ابتغاء وجه الله ورضاه ، والتعلق بثوابه في الآخرة ؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله. فهو لا يخلق رزقه ، ولا ينال إلا من عطاء الله .. والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر ،