وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)
هنا ـ في هذه الموجة ـ يواجه السياق القرآني فطرة المشركين ببأس الله. بل يواجههم بفطرتهم ذاتها حين تواجه بأس الله .. حين تتعرى من الركام في مواجهة الهول ، وحين يهزها الهول فيتساقط عنها ذلك الركام! وتنسى حكاية الآلهة الزائفة ؛ وتتجه من فورها إلى ربها الذي تعرفه في قرارتها تسأله وحده الخلاص والنجاة!
ثم يأخذ بأيديهم ليوقفهم على مصارع الغابرين من أسلافهم ، وفي الطريق يريهم كيف تجري سنة الله ، وكيف يعمل قدر الله. ويكشف لأبصارهم وبصائرهم عن استدراج الله لهم ، بعد تكذيبهم برسل الله ، وكيف قدم لهم الابتلاء بعد الابتلاء ـ الابتلاء بالبأساء والضراء ، ثم الابتلاء بالرخاء والنعماء ـ وأتاح لهم الفرصة بعد الفرصة ، لينتبهوا من الغفلة ، حتى إذا استنفدوا الفرص كلها ، وغرتهم النعمة بعد أن لم توقظهم الشدة ، جرى قدر الله ، وفق سنته الجارية وجاءهم العذاب بغتة : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
وما يكاد هذا المشهد الذي يهز القلوب هزا يتوارى ، حتى يجيء في أعقابه مشهد آخر وهم يتعرضون لبأس الله أيضا ، فيأخذ سمعهم وأبصارهم ، ويختم على قلوبهم ، ثم لا يجدون إلها غير الله يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وإدراكهم.
وفي مواجهة هذين المشهدين الرائعين الهائلين يتحدث إليهم عن وظيفة الرسل .. إنها البشارة والنذارة .. ليس وراء ذلك شيء .. ليس لهم أن يأتوا بالخوارق ، ولا أن يستجيبوا لمقترحات المقترحين! إنما هم يبلغون. يبشرون وينذرون. ثم يؤمن فريق من الناس ويعمل صالحا فيأمن الخوف وينجو من الحزن. ويكذب فريق ويعرض فيمسه العذاب بهذا الإعراض والتكذيب. فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر .. فهذا هو المصير ..
* * *
(قُلْ : أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ، أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ ـ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ـ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ ـ إِنْ شاءَ ـ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) ..
هذا طرف من وسائل المنهج الرباني في خطاب الفطرة الإنسانية بهذه العقيدة يضم إلى ذلك الطرف الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة وفيما قبلها وما بعدها كذلك في سياق السورة.
لقد خاطبها هناك بما في عوالم الأحياء من آثار التدبير الإلهي والتنظيم ؛ وبما في علم الله من إحاطة وشمول. وهو هنا يخاطبها ببأس الله ؛ وبموقف الفطرة إزاءه حين يواجهها في صورة من صوره الهائلة ، التي تهز القلوب ، فيتساقط عنها ركام الشرك ؛ وتتعرى فطرتها من هذا الركام الذي يحجب عنها ما هو مستقر في أعماقها من معرفتها بربها ، ومن توحيدها له أيضا :
(قُلْ : أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ .. أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ .. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
إنها مواجهة الفطرة بتصور الهول .. عذاب الله في الدنيا عذاب الهلاك والدمار ؛ أو مجيء الساعة على غير انتظار .. والفطرة حين تلمس هذه اللمسة ؛ وتتصور هذا الهول ؛ تدرك ـ ويعلم الله سبحانه أنها تدرك ـ