النبي الرسول! ولا يستمع إلى مقترحات المكذبين ـ ولا الناس عامة ـ في منهج الدعوة ، ولا في اقتراح براهين وآيات معينة عليه .. والأحياء الذين يسمعون سيستجيبون ، أما موتى القلوب فهم موتى لا يستجيبون ، والأمر إلى الله إن شاء أحياهم وإن شاء أبقاهم موتى حتى يرجعوا إليه يوم القيامة.
وهم يطلبون آية خارقة على نحو ما كان يقع للأقوام من قبلهم ، والله قادر على أن ينزل آية. ولكنه سبحانه لا يريد ـ لحكمة يراها ـ فإذا كبر على الرسول إعراضهم فليحاول هو إذن بجهده البشري أن يأتيهم بآية! .. إن الله ـ سبحانه ـ هو خالق الخلائق جميعا ، وعنده أسرار خلقهم ، وحكمة اختلاف خصائصهم وطباعهم. وهو يترك المكذبين من البشر صما وبكما في الظلمات ، ويضل من يشاء ويهدي من يشاء وفق ما يعلمه من حكمة الخلق والتنويع ..
* * *
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ. وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ..
إن مشركي العرب في جاهليتهم ـ وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش ـ لم يكونوا يشكون في صدق محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلقد عرفوه صادقا أمينا ، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة ، كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته ، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر ، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله ..
ولكنهم ـ على الرغم من ذلك ـ كانوا يرفضون إظهار التصديق ، ويرفضون الدخول في الدين الجديد! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولكن لأن في دعوته خطرا على نفوذهم ومكانتهم .. وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله ، والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه ..
والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة :
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري : أنه حُدِّث ، أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه. وكل لا يعلم بمكان صاحبه. فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له. حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك .. ثم تفرقوا .. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف .. أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا