إن الحياة ـ في التصور الإسلامي ـ تمتد طولا في الزمان ، وتمتد عرضا في الآفاق ، وتمتد عمقا في العوالم ، وتمتد تنوعا في الحقيقة .. عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها.
إن الحياة ـ في التصور الإسلامي ـ تمتد في الزمان ، فتشمل هذه الفترة المشهودة ـ فترة الحياة الدنيا ـ وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله ؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار!
وتمتد في المكان ، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر ؛ دارا أخرى : جنة عرضها كعرض السماوات والأرض ؛ ونارا تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين! وتمتد في العوالم ، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله ؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله. وجود يبدأ من لحظة الموت ، وينتهي في الدار الآخرة. وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله. وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله.
وتمتد الحياة في حقيقتها ؛ فتشمل هذا المستوي المعهود في الحياة الدنيا ، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى .. في الجنة وفي النار سواء .. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا .. ولا تساوي الدنيا ـ بالقياس إليها ـ جناح بعوضة!
والشخصية الإنسانية ـ في التصور الإسلامي ـ يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان ، وفي هذه الآفاق من المكان ، وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات .. ويتسع تصورها للوجود كله ؛ وتصورها للوجود الإنساني ؛ ويتعمق تذوقها للحياة ؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها ، بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات .. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة ، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني ، وتصورهم للوجود الإنساني ؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا!
ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم ، ويبدأ الاختلاف في النظم .. ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق ؛ وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه : تصورا واعتقادا ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة ونظاما ..
إن إنسانا يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات ، غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق ، ويصارع الآخرين عليه ، بلا انتظار لعوض عما يفوته ، ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به .. إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس!
إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشئ سعة في النفس وكبرا في الاهتمامات ورفعة في المشاعر! ينشأ عنها هي بذاتها خلق وسلوك ، غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم! فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه ، طبيعة هذا التصور ، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة ، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته ؛ استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله ، وأنه مناط العوض والجزاء ؛ وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه ـ متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي ـ وصلحت الأوضاع والأنظمة ، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف ، وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها ؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة ، فيخسرون الدنيا والآخرة!