(يا لَيْتَنا نُرَدُّ ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ..
فهم يعلمون الآن أنها كانت «آيات ربنا»! وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا. وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات ، وعندئذ سيكونون من المؤمنين!
ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون!
على أنهم إنما يجهلون جبلتهم. فهي جبلة لا تؤمن. وقولهم هذا عن أنفسهم : إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين ، إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل! وإنهم ما يقولون قولتهم هذه ، إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون ، وأنهم ناجون ، وأنهم مفلحون.
(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ..
إن الله يعلم طبيعتهم ؛ ويعلم إصرارهم على باطلهم ؛ ويعلم أن رجفة الموقف الرعيب على النار هي التي أنطقت ألسنتهم بهذه الأماني وهذه الوعود .. (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ..
ويدعهم السياق في هذا المشهد البائس ، وهذا الرد يصفع وجوههم بالمهانة والتكذيب!
* * *
يدعهم ليفتح صفحتين جديدتين متقابلتين كذلك ؛ ويرسم لهما مشهدين متقابلين : أحدهما في الدنيا وهم يجزمون بأن لا بعث ولا نشور ، ولا حساب ولا جزاء. وثانيهما في الآخرة وهم موقوفون على ربهم يسألهم عما هم فيه : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟) .. السؤال الذي يزلزل ويذيب .. فيجيبون إجابة المهين الذليل : (بَلى! وَرَبِّنا) .. فيجبهون عندئذ بالجزاء الأليم بما كانوا يكفرون .. ثم يمضي السياق يرسم مشهدهم والساعة تأخذهم بغتة ، بعد ما كذبوا بلقاء الله ، فتنتابهم الحسرة ؛ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم! وفي النهاية يقرر حقيقة وزن الدنيا والآخرة في ميزان الله الصحيح :
(وَقالُوا : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا : بَلى وَرَبِّنا. قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا : يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها ، وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟
وقضية البعث والحساب والجزاء في الدار الآخرة من قضايا العقيدة الأساسية ، التي جاء بها الإسلام ؛ والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الألوهية. والتي لا يقوم هذا الدين ـ عقيدة وتصورا ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة ونظاما ـ إلا عليها .. وبها ..
إن هذا الدين الذي أكمله الله ، وأتم به نعمته على المؤمنين به ، ورضيه لهم دينا ـ كما قال لهم في كتابه الكريم ـ هو منهج للحياة كامل في حقيقته ، متكامل متناسق في تكوينه .. «يتكامل» ويتناسق فيه تصوره الاعتقادي مع قيمه الخلقية ، مع شرائعه التنظيمية .. وتقوم كلها على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية فيه وحقيقة الحياة الآخرة.
فالحياة ـ في التصور الإسلامي ـ ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد ؛ وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس ؛ كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.