ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز.
(فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) ..
ثم يعقب على هذا النهي بالتذكير بالعلي الكبير .. كي تتطامن القلوب ، وتعنو الرؤوس ، وتتبخر مشاعر البغي والاستعلاء ، إن طافت ببعض النفوس : على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب.
(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) ..
* * *
ذلك حين لا يستعلن النشوز ، وإنما تتقى بوادره. فأما إذا كان قد استعلن ، فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت. إذ لا قيمة لها إذن ولا ثمرة. وإنما هي إذن صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخر! وهذا ليس المقصود ، ولا المطلوب .. وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي ، بل سيزيد الشقة بعدا ، والنشوز استعلانا ؛ ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة. أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة .. في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير ؛ لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار. قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار :
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ، فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما. إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) ..
وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية ؛ ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح ، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار ـ الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة ـ فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام ؛ بقدر خطورتها في بناء المجتمع ، وفي إمداده باللبنات الجديدة ، اللازمة لنموه ورقيه وامتداده.
إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة ـ عند خوف الشقاق ـ فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلا .. يبعث حكم من أهلها ترتضيه ، وحكم من أهله يرتضيه. يجتمعان في هدوء. بعيدين عن الانفعالات النفسية ، والرواسب الشعورية ، والملابسات المعيشية ، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين. طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة ، وتعقد الأمور ، وتبدو ـ لقربها من نفسي الزوجين ـ كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما. حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين. مشفقين على الأطفال الصغار. بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر ـ كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف ـ راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار ... وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين ، لأنهما من أهلهما : لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار. إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها ، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها! يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح. فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح ، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة ، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين ، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق :
(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) ..
فهما يريدان الإصلاح ، والله يستتجيب لهما ويوفق ..
وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم ، ومشيئة الله وقدره .. إن قدر الله هو الذي يحقق ما يقع في