ولا تزيد الأسباب فيها معقولية على هذه الأسباب .. وهي كما ترى أوهام من ظلام الوثنية المخيم. وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم ، لا يكون هناك حد ولا فاصل ، ولا ميزان ولا منطق. وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط. وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب ، والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان ، حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق ، الذي لا منعرجات فيه ولا ظلام. وقد تتغير الأشكال الخارجية ولكن لباب الجاهلية يبقى ، وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة! إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها حالة ووضع يتكرر ـ في أشكال شتى ـ على مدار الزمان.
فإما ألوهية واحدة تقابلها عبودية شاملة ؛ وتتجمع فيها كل ألوان السلطة ، وتتجه إليها المشاعر والأفكار ، والنوايا والأعمال ، والتنظيمات والأوضاع ، وتتلقى منها القيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والتصورات والتوجيهات .. وإما جاهلية ـ في صورة من الصور ـ تتمثل فيها عبودية البشر للبشر أو لغيرهم من خلق الله .. لا ضابط لها ولا حدود. لأن العقل البشري لا يصلح وحده أن يكون ضابطا موزونا ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة. فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين ؛ ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبه ذلك الضابط الموزون.
وإننا لنشهد اليوم ـ بعد أربعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن بهذا البيان ـ أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد ، تاه في منحنيات ودروب لا عداد لها ، وخضع لربوبيات شتى ، وفقد حريته وكرامته ومقاومته .. ولقد شهدت في هذا الجانب الخرافي وحده في صعيد مصر وريفها عشرات من الأوهام تطلق لها بعض صنوف الحيوان ، للأولياء والقديسين ، في ذات الصورة التي كانت تطلق بها للآلهة في الزمان القديم! على أن المسألة في تلك الطقوس الجاهلية ـ وفي كل جاهلية ـ هي القاعدة الكلية. هي نقطة الانطلاق في طريق الإسلام أو في طريق الجاهلية. هي .. لمن الحكم في حياة الناس .. لله وحده كما قرر في شريعته؟ أم لغير الله فيما يقرره البشر لأنفسهم من أحكام وأوضاع وشرائع وطقوس وقيم وموازين؟ أو بتعبير آخر : لمن الألوهية على الناس؟ لله؟ أم لخلق من خلقه؟ أيا كان هذا الخلق الذي يزاول حقوق الألوهية على الناس!
ومن ثم يبدأ النص القرآني بتقرير أن الله لم يشرع هذه الطقوس. لم يشرع البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحامي .. فمن ذا الذي شرعها إذن لهؤلاء الكفار؟!
(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) ..
والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار. كفار يفترون على الله الكذب. مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله .. ومرة يقولون : إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا .. ونحن مع هذا لا نعصي الله .. وكله كذب على الله :
(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ..
ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله. فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة. بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله. ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله! وهم بهذا كانوا كفارا. ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون ـ أو لا يزعمون ـ أن هذا شرع الله!
إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه ، وهو الذي بينه رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو ليس مبهما