ظلمة ، ويصادفه في كل ثنية وهم. تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها ، وشتى التضحيات لإرضائها ؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات ، حتى ينسى الوثني أصولها ، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها ، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان.
ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد ؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض ؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب .. وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها ؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها. ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها ؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها. سواء في أعماق الضمير ، أم في شعائر العبادة ، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام.
وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية ، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير. ويقرر أصول التفكير والنظر ؛ وأصول الشرع والنظام في آن :
(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ، وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ..
هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة ، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير. البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي!!!
هذه الصنوف من الأنعام ما هي؟ ومن الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها؟
لقد تشعبت الروايات في تعريفها ، فنعرض نحن طرفا من هذه التعريفات :
«روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيت (أي يحجز لبنها ويخصص للآلهة فلا يطعمها الناس وكهنة الآلهة هم الذين يأخذونه طبعا!) والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم. والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم. والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود (أي يقوم بتلقيح عدد من النوق) فإذا بلغ ذلك يقال : حمي ظهره ، فيترك ، فيسمونه الحامي.
«وقال أهل اللغة : البحيرة الناقة التي تشق أذنها ، يقال : بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا ، والناقة مبحورة وبحيرة ، إذا شققتها واسعا. ومنه البحر لسعته. وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة ، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا ، بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولم تطرد عن ماء ، ولم تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها. قالوا : والسائبة المخلاة وهي المسيبة ، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر ، أو برء من مرض ، أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية .. فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوها : وقال بعضهم : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم. وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم. وقالوا : الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى» (١).
وهناك روايات أخرى عن تعريف هذه الأنواع من الطقوس لا ترتفع على هذا المستوي من التصور ،
__________________
(١) عن كتاب أحكام القرآن للجصاص جزء ٢ ص ٥٩١ طبعة البهية المصرية.