ثم كانت هذه الرابعة الحاسمة والأخيرة ، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان :
عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء (١). فنزلت التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما). فدعي عمر ـ رضي الله عنه ـ فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت التي في النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ..) الآية .. فدعي عمر ـ رضي الله عنه ـ فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء. فنزلت التي في المائدة : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ؛ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟) فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : «انتهينا. انتهينا» .. (أخرجه أصحاب السنن).
ولما نزلت آيات التحريم هذه ، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة : «ألا أيها القوم. إن الخمر قد حرمت» .. فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها ، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه .. وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر!
والآن ننظر في صياغة النص القرآني ؛ والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ..
لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى ..
يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر :
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ..
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف «الطيبات» التي أحلها الله. وهي من عمل الشيطان. والشيطان عدو الإنسان القديم ؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه ، وتشمئز منه نفسه ، ويجفل منه كيانه ، ويبعد عنه من خوف ويتقيه!
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح ـ وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق :
(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ..
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس :
(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ...) ..
__________________
(١) لعل آية النحل هي التي أثارت قلق عمر ـ رضي الله عنه ـ ورغبته في بيان شفاء. وقد كان عمر ـ كما حكى عن نفسه ـ رجل خمر في الجاهلية. مما يدل على تغلغل هذه العادة في المجتمع الجاهلي ..