لسلطانه .. حتى إذا خلصت نفوسهم لله ؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله .. عندئذ بدأت التكاليف ـ بما فيها الشعائر التعبدية ـ وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية .. بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال. لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان!
أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد «الإسلام» .. بعد الاستسلام .. بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء .. بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار .. أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» تحت عنوان : «انحلت العقدة الكبرى» : «.. انحلت العقدة الكبرى .. عقدة الشرك والكفر .. فانحلت العقد كلها ؛ وجاهدهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة. وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ؛ ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ؛ ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى. حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ؛ وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد .. نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ؛ وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة (١)».
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا .. فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة ، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها ، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها.
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي :
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ..» فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر (وهو المخمر) في مقابل الرزق الحسن .. فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر.
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) .. وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الإثم أكبر من النفع. إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ؛ ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع.
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب ، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) .. والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ؛ ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة. وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب ـ وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين ـ وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي. وفيه ـ وهو أمر له وزنه في نفس المسلم ـ ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها!
__________________
(١) ص ٨٧ ـ ٨٨ من الطبعة الرابعة.