والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة ؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث. هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة. بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه :
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ؛ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) ..
بعد أن ذكر أن للرجال نصيبا مما اكتسبوا ، وللنساء نصيبا مما اكتسبن .. وبين ـ فيما سلف ـ أنصبة الذكور والإناث في الميراث .. ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه. يرثونه مما آل إليه من الوالدين والأقربين .. فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلا بعد جيل. يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون ؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين .. وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي ؛ وأنها لا تقف عند جيل ؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد .. إنما هو التوارث المستمر ، والتداول المستمر ، وحركة التوزيع الدائبة ؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين ، وتعديل في المقادير ، بين الحين والحين ..
ثم عطف على العقود ، التي أقرتها الشريعة الإسلامية ؛ والتي تجعل الإرث يذهب أحيانا إلى غير الأقرباء .. وهي عقود الموالاة .. وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعا من هذه العقود :
الأول عقد ولاء العتق ، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق ـ بعد عتقه ـ بمنزلة العضو في أسرة مولاه (مولى العتق) فيدفع عنه المولى الدية ، إذا ارتكب جناية توجب الدية ـ كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب ـ ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة ..
والثاني عقد الموالاة. وهو النظام الذي يبيح لغير العربي ـ إذا لم يكن له وارث من أقاربه ـ أن يرتبط بعقد مع عربي هو (مولى الموالاة). فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه. يدفع عنه المولى الدية ـ إذا ارتكب جناية توجب الدية ـ ويرثه إذا مات.
والنوع الثالث ، هو الذي عقده النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أول العهد بالمدينة ، بين المهاجرين والأنصار. فكان المهاجر يرث الأنصاري ، مع أهله ـ كواحد منهم ـ أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة ..
والنوع الرابع .. كان في الجاهلية ، يعاقد الرجل الرجل ، ويقول : «وترثني وأرثك» ..
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود ؛ وبخاصة النوعين الثالث والرابع. بتقرير أن الميراث سببه القرابة. والقرابة وحدها. ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها. فأمضاها على ألا يجدد سواها. وقال الله سبحانه :
(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه :
(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) ..
وقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
«لا حلف في الإسلام. وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» (رواه أحمد ومسلم).
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية ، في علاجه لها ـ بدون أثر رجعي ـ فهكذا صنع في الربا حين أبطله. أبطله منذ نزول النص ، وترك لهم ما سلف منه ؛ ولم يأمر برد