فقال معاوية : شأنك بصاحبك! ـ وأبو الدرداء جالس ـ فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة» .. فقال الأنصاري : «فإني قد عفوت» ..
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به للتعويض ..
وتلك شريعة الله العليم بخلقه ؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ؛ ويسكب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام.
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو «الظالمون».
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر. وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله. فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله ـ سبحانه ـ واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس. وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم. فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعريضها لعقاب الكفر. وبتعريض حياة الناس ـ وهو معهم ـ للفساد.
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) .. فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو «من» المطلق العام.
* * *
ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة.
(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ..
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل ، ليكون منهج حياة ، وشريعة حكم .. ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة. وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة ، فاعتمد شريعتها ـ فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة .. وجعل الله فيه هدى ونورا ، وهدى وموعظة .. ولكن لمن؟ .. «للمتقين». فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة ، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور ؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور .. أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة ، فلا تبلغ إليها الموعظة ؛ ولا تجد في الكلمات معانيها ؛ ولا تجد في التوجيهات روحها ؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها ؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب .. إن النور موجود ، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة ، وإن الهدى موجود ، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة ، وإن الموعظة موجودة ، ولكن لا يلتقطها إلا القلب الواعي.
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونورا وموعظة للمتقين ، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل .. أي إنه خاص بهم ، فليس رسالة عامة للبشر ـ شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل