إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد «الإنسان» الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة .. أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد. وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة.
وهو أول إعلان .. وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوي من ناحية التطبيق العملي.
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم ـ التوراة ـ عنه ؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) بل فيما بينهم هم أنفسهم. على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة ، وبني النضير العزيزة ؛ حتى جاءهم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فردهم إلى شريعة الله ـ شريعة المساواة .. ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء!
والقصاص على هذا الأساس العظيم ـ فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان ـ هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل ـ دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه ـ وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة. إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو أنفا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه .. وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن ـ طالت مدة السجن أو قصرت ـ فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير آلام السجن .. على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة ..
والقصاص على هذا الأساس العظيم ـ فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان ـ هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية .. وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات. ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص ..
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة ـ كما لحظها شرع الله في التوراة ـ حتى إذا ضمن لها القصاص المريح .. راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو ـ عفو القادر على القصاص :
(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)
من تصدق بالقصاص متطوعا .. سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل (والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تعزير القاتل بما يراه) أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروح كلها ، فتنازل عن القصاص .. من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ؛ يحط بها الله عنه.
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته. نفوسا لا يغنيها العوض المالي ؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت .. فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد؟ .. إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة .. ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله ..
روى الإمام أحمد. قال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : «كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال معاوية : سنرضيه .. فألح الأنصاري ..