ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل ، تكف النموذج الشرير
المعتدي عن الاعتداء ؛ وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام عن الجريمة ؛ فإذا
ارتكبها ـ على الرغم من ذلك ـ وجد الجزاء العادل ، المكافئ للفعلة المنكرة. كما
تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه. فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش ، وأن تصان
، وأن تأمن ؛ في ظل شريعة عادلة رادعة.
ولا يحدد
السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة .. وعلى الرغم من ورود بعض
الآثار والروايات عن : «قابيل وهابيل» وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة ؛ وورود
تفصيلات عن القضية بينهما ، والنزاع على أختين لهما .. فإننا نؤثر أن نستبقي القصة
ـ كما وردت ـ مجملة بدون تحديد. لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن
أهل الكتاب ـ والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان
على النحو الذي تذكره هذه الروايات ـ والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ
لم يرد فيه تفصيل. وهو من رواية ابن مسعود قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل
من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل» .. رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو
معاوية ووكيع قالا : حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن
مسعود .. وأخرجه الجماعة ـ سوى أبي داود ـ من طرق عن الأعمش .. وكل ما نستطيع أن
نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان ، وأنه كان أول حادث قتل عدواني
متعمد ، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث ..
وبقاء القصة
مجملة ـ كما وردت في سياقها القرآني ـ يؤدي الغرض من عرضها ؛ ويؤدي الإيحاءات
كاملة ؛ ولا تضيف التفصيلات شيئا إلى هذه الأهداف الأساسية .. لذلك نقف نحن عند
النص العام لا نخصصه ولا نفصله ..
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ـ بِالْحَقِّ ـ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ، فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ. قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ. قالَ :
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ..
واتل عليهم نبأ
هذين النموذجين من نماذج البشرية ـ بعد ما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى ـ اتله
عليهم بالحق. فهو حق وصدق في روايته ، وهو ينبىء عن حق في الفطرة البشرية ؛ وهو
يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة.
إن ابني آدم
هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة. فهما في موقف طاعة بين يدي
الله. موقف تقديم قربان ، يتقربان به إلى الله :
(إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً) ..
(فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ..
والفعل مبني
للمجهول ؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية ؛ وإلى
كيفية غيبية .. وهذه الصياغة تفيدنا أمرين : الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا
التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح أنها مأخوذة عن أساطير «العهد
القديم» .. والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه
وتبييت قتله ، فالأمر لم يكن له يد فيه ؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية ؛
تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته .. فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه ،
وليجيش خاطر القتل في نفسه! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في
هذا المجال .. مجال العبادة والتقرب ، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل
لإرادة أخيه في مجالها ..