هذه هي نهاية المطاف بموسى عليهالسلام. نهاية الجهد الجهيد. والسفر الطويل. واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل!
نعم ها هي ذي نهاية المطاف .. نكوصا عن الأرض المقدسة ، وهو معهم على أبوابها. ونكولا عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق .. فماذا يصنع؟ وبمن يستجير؟
(قالَ : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ..
دعوة فيها الألم. وفيها الالتجاء. وفيها الاستسلام. وفيها ـ بعد ذلك ـ المفاصلة والحسم والتصميم!
وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه .. ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول. وفي إيمان النبي الكليم. وفي عزم المؤمن المستقيم ، لا يجد متوجها إلا لله. يشكو له بثه ونجواه ، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين. فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق .. ما يربطه بهم نسب. وما يربطه بهم تاريخ. وما يربطه بهم جهد سابق. إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله ، وهذا الميثاق مع الله. وقد فصلوه. فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق. وما عاد يربطه بهم رباط .. إنه مستقيم على عهد الله وهم فاسقون .. إنه مستمسك بميثاق الله وهم ناكصون ..
هذا هو أدب النبي. وهذه هي خطة المؤمن. وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون .. لا جنس. لا نسب. لا قوم. لا لغة. لا تاريخ. لا وشيجة من كل وشائج الأرض ؛ إذا انقطعت وشيجة العقيدة ؛ وإذا اختلف المنهج والطريق ..
واستجاب الله لنبيه. وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين.
(قالَ : فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).
وهكذا أسلمهم الله ـ وهم على أبواب الأرض المقدسة ـ للتيه ؛ وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم .. والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة ؛ وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل. جيل يعتبر بالدرس ، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود .. جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر ، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب.
ويتركهم السياق هنا ـ في التيه ـ لا يزيد على ذلك .. وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني ، على طريقة القرآن في التعبير (١).
* * *
ولقد وعى المسلمون هذا الدرس ـ مما قصه الله عليهم من القصص ـ فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر ، قالوا لنبيهم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذن لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) لكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون ..
وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة ؛ وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل ..
__________________
(١) يراجع فصل القصة في القرآن في كتاب «التصوير الفني في القرآن» للمؤلف وكتاب «منهج الفن الإسلامي» لمحمد قطب «دار الشروق»