ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة. وهي عقوبة الجلد. ولا يكون في عقوبة الرجم. إذ لا يمكن قسمتها! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر. أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء. هل تكون هذا الحد نفسه ـ وهو نصف ما على الحرة البكر ـ ويتولاه الإمام؟ أم تكون تأديبا يتولاه سيدها ودون النصف من الحد؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه.
أما نحن ـ في ظلال القرآن ـ فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم ، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف.
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره ـ كما قلنا ـ واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع! وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات. تجعل الواحدة ـ ولو كانت متزوجة ـ أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة. فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة. ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائيا من العقوبة.
قوام وسط. يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات.
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية ؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف.
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة. فكان يقول : «ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته ـ إن كان من بيئة كريمة ـ مصادرة نصف ماله. وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض» (١).
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه «منو» وهو القانون المعروف باسم «منوشاستر» أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه. أما غيره فيقتل! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده ... إلخ (٢)
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد (٣).
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ؛ وليأخذ الجاني بالعقوبة ، مراعيا جميع اعتبارات «الواقع». وليجعل حد الأمة ـ بعد الإحصان ـ نصف حد الحرة قبل الإحصان. فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف. فهذا خلاف الواقع. ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة ـ وواقعها يختلف عن واقع الحرة. ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف!!! وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب إفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف «البيض» ما لا تغفره للضعاف «الملونين» والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت. والإسلام هو الإسلام .. حيث كان ..
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة. فمن استطاع الصبر ـ في غير مشقة ولا فتنة ـ فهو خير. لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء :
__________________
(١) مدونة جوستنيان ترجمة عبد العزيز فهمي.
(٢) كتاب : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي.
(٣) رواه الخمسة.