ولكن ـ قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية ـ ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي ، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عند ما واجهه المجتمع الإسلامي. إنه لا يسمي الرقيقات : رقيقات. ولا جواري. ولا إماء. إنما يسميهن «فتيات».
(فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ..
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني ـ كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك ـ إنما يذكر بالأصل الواحد ، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط :
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ..
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة. إنما يسميهم «أهلا» :
(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ).
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها. فمهرها إنما هو حق لها. لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له. فهذا ليس كسبا ، إنما هو حق ارتباطها برجل :
(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ..
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال ، إنما هو النكاح والإحصان :
(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) ..
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات ، حتى وهن في هذا الوضع ، الذي اقتضته ملابسات وقتية ، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية.
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائدا في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق ، وحرمانه حق الانتساب إلى «إنسانية» السادة! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه «الإنسانية» .. يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليها كرامة «الإنسان» وهو يرعاها في جميع الأحوال ، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي ، كوضع الاسترقاق.
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا ، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة. وكلنا يعرف حكاية «الترفيه» أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال!
ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج ، واضعا في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة ، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة ، مقدرا أن الرق يقلل من الحصانة النفسية ، لأنه يغض من الشعور بالكرامة ، والشعور بشرف العائلة ـ وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة ـ كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، واختلافها بين الحرة والأمة ، وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحا في عرضها ، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة ـ بعد إحصانها ـ نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها.
(فَإِذا أُحْصِنَّ. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).