١٨ ـ إن الله ـ سبحانه ـ لا يطارد عباده الضعاف ، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو ـ سبحانه ـ غني عنهم ، وما تنفعه توبتهم ، ولكن تنفعهم هم أنفسهم ، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : إِنِّي تُبْتُ الْآنَ).
فهذه التوبة هي توبة المضطر ، لجت به الغواية ، وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب ، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها الله ، لأنها لا تنشئ صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة ، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن ، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال ، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان ، ليعملوا عملا صالحا ـ إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب ـ أو ليعلنوا ـ على الأقل ـ انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم ، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد ..
(وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ..
وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة ، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة ..
(أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).
أعتدناه : أي أعددناه وهيأناه .. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار!
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة ، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة. فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد ، وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد ..
* * *
١٩ ـ والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة ..
ولقد كانت الجاهلية العربية ـ كما كانت سائر الجاهليات من حولهم ـ تعامل المرأة معاملة سيئة .. لا تعرف لها حقوقها الإنسانية ، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا ، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان. وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية ، وتطلقها فتنة للنفوس ، وإغراء للغرائز ، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف .. فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية. المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) .. ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوي الحيواني الهابط إلى المستوي الإنساني الرفيع ، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل ؛ وليوثق الروابط والوشائج ، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى ، وعند الانفعال الأول :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ـ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ـ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ، وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟ وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ