الجاهلية. هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب. وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس ـ أي مساس ـ بأموال اليتامى .. كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال!
من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : لما نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) .. الآية .. انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء ، فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى. قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُم ..) «الآية» فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم ..
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر ، إلى ذلك الأفق الوضيء ؛ وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب ..
* * *
١١ ـ والآن نجيء إلى نظام التوارث. حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم ؛ فتدل هذه الوصية على أنه ـ سبحانه ـ أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم ؛ كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه ؛ فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم ، وبين الأقرباء وأقاربهم. وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه ، وأن ينفذوا وصيته وحكمه .. وأن هذا هو معنى «الدين» الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا .. كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .. ثم يأخذ في التفريع ، وتوزيع الأنصبة ، في ظل تلك الحقيقة الكلية ، وفي ظل هذا المبدأ العام .. ويستغرق هذا التفصيل آيتين : أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع ، والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة. ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالا لبعض حالات الكلالة (وسنعرضها في موضعها) :
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ـ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ـ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ، وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ـ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ـ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً .. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ـ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ـ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ـ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ـ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ـ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ـ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ـ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ـ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ، أَوِ امْرَأَةٌ ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ، فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ـ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ـ غَيْرَ مُضَارٍّ ، وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) ..
هاتان الآيتان ، مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة ، ونصها : (يَسْتَفْتُونَكَ. قُلِ : اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَهُ أُخْتٌ ، فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. وَهُوَ يَرِثُها ـ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ـ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..