(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) ..
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا .. إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا. ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين :
(وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ..
فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة. وعنده الجزاء ، وعنده العوض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر :
(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ..) ..
١٥٧ ـ على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ؛ فهذه ليست نهاية المطاف. وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء. فهناك قيم أخرى ، واعتبارات أرقى في ميزان الله :
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ـ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) ..
فالموت أو القتل في سبيل الله ـ بهذا القيد ، وبهذا الاعتبار ـ خير من الحياة ، وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار : من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع. خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته ، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون. وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين .. إنه لا يكلهم ـ في هذا المقام ـ إلى أمجاد شخصية ، ولا إلى اعتبارات بشرية. إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله. وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق ، وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض ..
١٥٨ ـ وكلهم مرجوعون إلى الله ، محشورون إليه على كل حال. ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض ، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان. فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير .. والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه ، والاهتمام .. أما النهاية فواحدة : موت أو قتل في الموعد المحتوم ، والأجل المقسوم. ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر .. ومغفرة من الله ورحمة ، أو غضب من الله وعذاب .. فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس. وهو ميت على كل حال!
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة قدر الله. وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة ، وما وراء الابتلاء من جزاء .. وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة ، وفيما صاحبها من ملابسات ..
* * *
١٥٩ ـ ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة. جولة محورها شخص رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحقيقته النبوية الكريمة ؛ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة .. وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة ، وأسس هذا التنظيم ؛ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها ، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة :