(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. فَاعْفُ عَنْهُمْ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؟ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
وننظر في هذه الفقرة ، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها ـ وهي الحقيقة النبوية الكريمة ـ فنجد كذلك أصولا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة .. نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس .. ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية ـ وهو الشورى ـ يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى ـ في ظاهر الأمر ـ نتائج مريرة! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي ـ بعد الشورى ـ في مضاء وحسم. ونجد حقيقة التوكل على الله ـ إلى جانب الشورى والمضاء ـ حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية. ونجد حقيقة قدر الله ، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج. ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة. ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله ، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة .. وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى هذه الأمة ، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم ، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء!
هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات!
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. فَاعْفُ عَنْهُمْ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفي نفسه شيء من القوم ؛ تحمسوا للخروج ، ثم اضطربت صفوفهم ، فرجع ثلث الجيش قبل المعركة ؛ وخالفوا ـ بعد ذلك ـ عن أمره ، وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ، ووهنوا أمام إشاعة مقتله ، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين ، وأفردوه في النفر القليل ، وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم ، وهم لا يلوون على أحد .. يتوجه إليه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يطيب قلبه ، وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به. ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم ، الذي تتجمع حوله القلوب .. ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فتغلب على ما أثاره تصرفهم فيه ؛ وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم. ثم يدعوه أن يعفو عنهم ، ويستغفر الله لهم .. وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم ؛ غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية.
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ؛ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ..
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ؛ فجعلته ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رحيما بهم ، لينا معهم. ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ، ولا تجمعت حوله المشاعر. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى