(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..
ويا له من مشهد ، الله حاضره! ويا له من موقف ، الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور. والسرائر مكشوفة فيه لله. وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر.
١٢٢ ـ واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول ، هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين ؛ بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق «عبد الله بن أبي بن سلول» حين انفصل بثلث الجيش ، مغضبا أن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يأخذ برأيه ، واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال : «لو نعلم قتالا لاتبعناكم!» فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة ؛ وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه ، ويطغى في ذلك القلب على العقيدة .. العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ، ولا تطيق لها فيه شريكا! فإما أن يخلص لها وحدها ، وإما أن تجانبه هي وتجتويه!
(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، وَاللهُ وَلِيُّهُما ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ..
وهاتان الطائفتان ـ كما ورد في الصحيح ـ من حديث سفيان بن عيينة ـ هما بنو حارثة وبنو سلمة. أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم ، من أول خطوة في المعركة. فكادتا تفشلان وتضعفان. لو لا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته ، كما أخبر هذا النص القرآني :
(وَاللهُ وَلِيُّهُما) ..
قال عمر ـ رضي الله عنه ـ سمعت جابر بن عبد الله يقول : فينا نزلت : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) .. قال : نحن الطائفتان .. بنو حارثة وبنو سلمة .. وما نحب (أو وما يسرني) أنها لم تنزل ، لقوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) .. (رواه البخاري ومسلم) ..
وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر ؛ والذي لم يعلمه إلا أهله ، حين حاك في صدورهم لحظة ؛ ثم وقاهم الله إياه ، وصرفه عنهم ، وأيدهم بولايته ، فمضوا في الصف .. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة ، واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم .. لتصوير خلجات النفوس ، وإشعار أهلها حضور الله معهم ، وعلمه بمكنونات ضمائرهم ـ كما قال لهم : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ـ لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم. ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة ؛ وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف ، ويدب فيهم الفشل ، ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون. ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين :
(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ..
على وجه القصر والحصر .. على الله وحده فليتوكل المؤمنون. فليس لهم ـ إن كانوا مؤمنين ـ إلا هذا السند المتين.
وهكذا نجد في الآيتين الأوليين ، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها ، هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي ، وفي التربية الإسلامية :
(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..
(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ..