إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ؛ ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ؛ ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه ..
وهو لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل ؛ إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ؛ ورسم سمات النفوس ، وخلجات القلوب ، وتصوير الجو الذي صاحبها ؛ والسنن الكونية التي تحكمها ؛ والمبادئ الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محورا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات ، والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها ؛ ثم يستطرد حولها ؛ ثم يعود إليها ؛ ثم يجول في أعماق الضمائر ، وفي أغوار الحياة ؛ ويكرر هذا مرة بعد مرة ، حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ ، لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها ، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر ، فجلاها. ونقاها ، وأراحها في مواضعها ، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقا ، ولا تحس فيها لبسا ولا دخلا ..
وينظر الإنسان في رقعة المعركة ، وما وقع فيها ـ على سعته وتنوعه ـ ثم ينظر إلى رقعة التعقيب القرآني ، وما تناوله من جوانب ؛ فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك ، وأبقى على الزمن ، وألصق بالقلوب ، وأعمق في النفوس ، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية ، وحاجات الجماعة الإسلامية ، في كل موقف تتعرض له في هذا المجال ، على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة ، والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة ، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة ، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان ..
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان ، في أي زمان وفي أي مكان .. وسنعرض لها متجمعة ـ إن شاء الله ـ بعد استعراضها متفرقة في النصوص ..
* * *
١٢١ ـ «وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم. إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون» ..
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره ـ وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو ، واستحضار المشهد الأول بهذا النص ، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور ـ الذي يعرفونه ـ من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله ـ سبحانه ـ معهم ، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم. وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي. وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي. والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي ، بكل تكاليفه ، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها ، وبكل حيويتها كذلك : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ .. وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ..) ..
والإشارة هنا إلى غدو النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من بيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد لبس لأمته ودرعه ؛ بعد التشاور في الأمر ، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها .. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للصفوف ، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل .. وهو مشهد يعرفونه ، وموقف يتذكرونه .. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :