١٠٨ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار .. على طريقة القرآن.
وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف. ومعنى النعمة الإلهية الكريمة .. بالإيمان والائتلاف.
وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب ، الذين تحذّر أن تطيعهم. كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم. يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه ..
١٠٩ ـ ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة ، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة. وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة. والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة. ١١٠ ـ وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض. ورجعة الأمر إليه في كل حال :
(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ..
تلك الصور. تلك الحقائق. تلك المصائر .. تلك آيات الله وبيناته لعباده : نتلوها عليك بالحق. فهي حق فيما تقرره من مبادئ وقيم ؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات. وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها ؛ وممن له الحق في تقرير القيم ، وتقرير المصائر ، وتوقيع الجزاءات. وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما. فهو الحكم العدل. وهو المالك لأمر السماوات والأرض. ولكل ما في السماوات وما في الأرض. وإليه مصير الأمور. إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق ، وأن يجري العدل ، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله .. لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات!
* * *
١١١ ـ بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها ؛ ثم يصف لها أهل الكتاب ـ ولا يبخسهم قدرهم ، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره ـ ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم. فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم ، ولن ينصروا عليهم. وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة ، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى :
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا ـ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ـ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. لَيْسُوا سَواءً. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ. وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ..
إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجبا ثقيلا ، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها ، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى :